خاطرة - الهرم المصرى نيوز

 

بقلم / رشا أبوالفتوح علي

 جثا (حازم) على ركبتيه و نظر لأعلى مقهورًا، تتناوب عيناه كل الأرواح المتحررة يبحث عنها و لا يراها .

  التفت خلفه فجأة فرأها، تبدد حاله و ابتسم، و انهمرت دموعه فرح كسيل بلا نحيب، ثم صفعته الصدمة المكتومة و تذكر رحيلها، رجع مرة أخرى يحملق للسماء يتابع الأدخنة السوداء الهاربة من منزله المحترق .

همس (حازم) حزيناً .....

" ربما وجدت النجاة " 

و هي تقف ثابته تنظر من بعيد، و تتمتم  بصوت يملؤه الرماد ....

 " السماء لا تنقذ أحد "

ثم يتبدل حالها الحزين و تهمس بلغة انتقامية ...

" الآن لم تعد حرًا... لن ترحل روحي أبدًا قبل أن تنتقم "

لكنها ظلت تبادله بعض النظرات الحزينة و تدعوه بصمت للجلوس بجانبها لمشاهدة وحشية النيران بشكل أمتع... ربما يقبلان التعازي على غربة أرواحهما ...لم يعارضها أبدًا ... 

جلس معها في صدمه و ظل يشاهد الأدخنة المتصاعدة على هيئة أرواح تستغيث، صمت في هلع يتساءل...

 " من أين أتت كل هذه الأرواح و لم يكن في المنزل غير( سارة ) ...؟؟؟؟؟ "

ثم أومأ قليلًا يعاتب نفسه على إهماله ....

"آآه ... سارة "

" المدللة صاحبة الحنجرة العذبة المسجونة جبرًا .. كانت تسمعه و تحترق  "

كانت لطيفة و رقيقة وكان قاسيًا و عنيدًا لا يشعر بها،

كانت الحرائق في قلبها تنضج كل يوم، و تقابله بابتسامة مشرقة و لكم هاجمتها الجدران و كانت تتغاضى و تنقذ روحها ...كانت تسمع أشياء مفزعة  فترتعب و تظل مقيدة في سريرها، حتى يعود ليلًا غير مدرك حالها وماذا يحدث معها ؟؟

يخلع ثيابه و يخمد جثة معذبة ، تخضع من أول غفوة في النوم لأعنف الكوابيس التي تجعله ينازع و ينازع حتى الصباح ... ثم يستيقظ صامتًا متهجم الملامح كأن روحه عالقة هناك في زحام الأرواح الشريدة، يتذوق القليل من الإفطار مع رشفة قهوة و سيجارة قاتلة و يرحل في صمت ..

فتشغل يومها بإحضار الطعام و سماع الموسيقى الهادئة أو قراءة إحدى الروايات الرومانسية، التي طالما حلمت أن تكون إحدى بطلاتها العاشقة التي يدفعها البطل إلى أحضانه لتشعر بالأمان، كانت تطمع فقط في الأمان وبعدها تصمت في تنهيده يائسة تحدث أحلامها ....

"ربما يحدث المستحيل ... ربما"

 يزحف صوت الناي الحزين تدريجيًا في تسلل  كالموسيقى المصاحبة للمشهد و هي مستغرقة في عمق الأحداث الرومانسية، تنتبه للصوت فجأة فيتجمد جسدها خوفًا، كأن إحدى أرواح الرواية استحضرت أو جذبتها إليها في معايشة مخيفة، تستجمع نفسها وتخرج  لتبحث عن مصدر الصوت، يزداد الصوت أكثر حين تقترب من الجدران فتعود مهرولة إلى غرفتها لتسجن داخلها ، مر وقت على ذلك الأمر و بدأت على التعود لكن اليوم نشب شجار عنيف مع أحد الجيران و زوجته حتى تصاعد الموقف و اضطرت في فضول الخروج من غرفتها لمباشرة الموقف و حين وصلت باب الشقة توقف الشجار .. 

قالت في تذمر...

" لقد تعبت نفسي بلا داعي "

"ما هذا الفراغ الذي يقتلني حتى أتلصص على جيراني"

و حين عادت  إلى الغرفة بدأ الشجار مرة أخرى فقررت أن لا تعود و تمنع فضولها من المشاركة، أخذ الشجار يحتد أكثر حتى تذمرت كثيرًا و خرجت تضع حد  لتلك الثرثارات فلا تستطيع القراءة سوى  في هدوء ... فتحت باب الشقة فلم تجد أحد...  شعرت بالقلق والتوتر و كأن شيئًا ما يريد أن يخرجها من غرفتها بأي شكل... كان دائما يعود البيت في ساعة متأخرة لتجنب الحديث معها و كانت تنتظر كي تقص له ما تسمع ليشعر بخوفها لكنه لم يكف عن مهاجمتها و نعتها بالجنون والخداع ...  ظلت حزينة تبكي دائما،  تواجه القسوة بلا أي دروع للنجاة حتى تخلت عن خوفها و قررت مواجه من يسكنون معها، ربما تستأنس بهم أو تجد أحد ما يصغي لها و يعطف عليها .

كانت تتجول في المنزل و تفضفض عن أمور كثيرة بعضها مؤلم و الآخر طيب و الآخر رومانسي حد الخيال حتى تعاطفوا معها و قرروا الانتقام لطيبتها، أخذوا يحيكون له بعض الكوابيس المزعجة كي لا يستطيع النوم و يصدق كلامها، ظل لأيام ينام غفوة على كرسي مكتبه بحجة العمل و يستيقظ في فزع ولم يخبرها.... لكن لاحظت اضطرابه وهذيانه المستمر و أدركت ما حل به .

قالت في صمت ....

"أخيرًا أدركك الجنون و الخداع مثلي لكن تكبرك منعك من تصديقي "

اضطر (حازم ) اللجوء إلي صديقة (عادل) الدكتور النفسي  عوضًا عن تصديقها، نصحه الدكتور بالتحدث مع زوجته، و أنها الحل الوحيد لإخراجه من الوحدة و أن يتركها تساعده ربما تستقر نفسة المعذبة ، بعد أن عرف علاقته الجافه بها لكن منعه كبرياءه أن يطلب ذلك، و في يوم من الأيام واجهته وحوش عاتية كانت تركض خلفه في نهم حتى وقع في بئر أسود حالك الظلمة به أفاعي لها الكثير من الألسنة تتجسد أمامه ثم تختفي ثم تعود تتجسد ثم تختفي وقع فاقد الوعي بجوار باب الغرفة الذي كان يحاول جاهدًا الوصول إليها حتى يهرب من أوهامه, نهضت مفزعة و جدته ملقى أرضًا في حالة مزرية فأشفقت علية، قامت بإفاقته حتى استعادة وعيه ثم اتكأ عليها حتى وصل السرير كانت المرة الأولى التي يأمن فيها بالقرب منها ظل يهلوس و يتمتم بكلمات غريبة ثم هوى على كتفها و ضاع في بحر عميق من النوم أشبه بالموت ، لم تتركه لحظة، ظلت بجانبه تحرسه كانت لا تعلم أي شيء عن الكوابيس التي تراوده و حين غفل جانبها تخلت عنه كل الوحوش و وجد المخرج من البئر نهائيًا ... كانت سعيدة جدًا بالقرب منه لكن نفسه  المظلمة لم تجعله يمنحها ثانيًا مثل هذه السعادة . 

استفاقة في تذمر و نهض مسرعًا يعاتبها...

" أين أكون؟ و كيف جلستي جانبي؟ "

ردت مسرعة في خجل ....

"لقد كنت متعب و أنا خفت عليك"

رد في هجوم و تهكم..

" تخافين علي ؟ ... مخادعة"

ردت في حيرة محطمة ..

" أنا لم أخدعك قط"

صرخ بصوت مخيف في وجهها ....

"أخرجي فوراً ....."

خرجت مسرعة منهارة إلى غرفتها لا تعرف ماذا يحدث و إلي من تذهب ومع من تتكلم، كانت يتيمه و لا يسمح لها الاختلاط بأحد ... فلم تجد إلا الجدران التي عادت تتحدث ثانيًا معها ، أخذت تقص حالها في قهر كالمجنونة .

سمعها من خلف الباب و لم يصدقها، كان الغضب يسيطر علية كسحر يكبل عقلة...

تركها منهارة و رحل   ....

كان الطقس في الخارج متقلب كأمزجة رياح الخماسين، السماء الصفراء المعبأة بالأتربة و التي تخنقك حين تبادر الاستنشاق ، و الأشجار التي تحاول الاقتراع من أماكنها و الفرار مع الريح و الزمن الذي يشرع في نهاية العالم ..

عاد مسرعًا إلى المنزل فوجدها نائمة و صوت الكمان يعزف ألحان هادئة ... 

أزعجه الصوت فدخل إلى غرفتها و ظل يبحث عن مصدرة فلم يجده .. انتابه الفزع فخرج سريعًا في زعر ؟ كان يريد النوم لكن يخشى تلك الوحوش المدمرة .... جلس على كرسي خارج الغرفة و هو يراقبها و يتساءل ؟ 

" ربما تكونين طيبة ... و مظلومة؟ "

إذًا من دفع صديقتك أن تقول مثل هذه الوشاية الوقحة ... أخذ يقلب الأحداث في تعسر حتى أنهك عقلة ثم غفل على الكرسي .

في الصباح ذهب لصديقتها في العمل ليتحقق من حديثها ...

قال بصوت حاد .....

" هل تتذكرين الحديث الذي دار بيننا يوم الزفاف "

قالت في خبث ...

" لا أذكر ؟؟؟ "

قال متعصبًا..

" تتذكرين جيدًا... لقد اتهمتي زوجتي بالخداع و أنها اختارتني فقط حتى تنسى حبها الأول و لا فارق بيني و بين غيري و أنني ضحية، و طلبتي مني أن أنهي هذا الموقف الساخر و أهرب و رفضت رجولتي أن تفعل شيء مشين مثل هذا  .."

فلم تنكر أي شيء ظلت ثابته على رأيها ثم قالت في سخرية .....

" و صرت بطل و أكملت الدور كرجل بلا  كرامة "

قال في غضب  ....

" لا تختبري صبري .... أريد أن أعرف من يكون ذلك الرجل ؟ "

" و ماذا تستفيد ؟ "

" لا يخصك الأمر .."

قالت في توتر .....

" لا أعرف أي شيء عنه "

انتفض قليلاً و ذهب ...

كانت تسمعه إحدى صديقاتها التي تعمل في نفس الشركة و لم تصدق ما تسمعه ... قالت في حزن شديد ....

" كانت سارة تتعذب و لم نشعر بها و ظننا أنها باعت أصدقائها بعد الزواج، لم ترد على أي رسالة و حذفت أرقامنا جميعًا، لكنها كانت في محنه و لم تبوح لأحد حتى لا تكسر ."

أسرعت مهرولة نحوه و هي تنادي ....

" انتظر ... انتظر أرجوك "

 توقف فجأة و الغضب يسيطر على ملامحة الحادة و قال .. 

" ماذا تريدين ؟ "

قالت في ألم .. 

" أنا (منى) صديقة سارة أيضًا ... و لقد سمعت حديثك مع (هند)  دون قصد "

رد في استعجال .... 

" و ماذا تريدين ؟ "

ردت في ثبات ... 

" سارة لم يكن لها أي علاقات مع أحد غير القليل من الأصدقاء و كانت تتسم بخجلها و هدوءها حتى أنها كانت تقضي معظم أوقاتها في القراءة و كل ما قيل عنها كذب " 

رد في حيرة  .....

" و ما الذي دفع صديقتها أن توشي بها و تدمر حياتها ."

قالت بثقة .... " الحقد "

" كانت سارة لها الكثير من المعجبين لخجلها و أخلاقها و كانت هي أول المرشحات عندما يبحث شاب عن الزواج بفتاه ذات أخلاق و كان الكثير يرشحها و ذلك جعل الكثير من البنات حاقدين عليها حتى أقرب صديقاتها التي أرادت الوقوع بها أكثر من مرة في علاقة عاطفية و كانت ترفض في خجل "

أخذ نفس عميق و جلس يستدعي كل الإهمال و الألم الذي سببهما لها ... 

تركته (منى) و ذهبت مستريحة الضمير ... تركته لعذاب ضميره ..

لم يستطع دخول المنزل لأسبوع كان يلوم نفسه و خشى لقاء عيونها وهي تنتظر و تنتظر حتى يئست من الانتظار، هاجمها اليأس و قادتها الظنون السيئة أنه لم يعد يريد أن يراها و هذا عقاب تجاوزه معها حين غفل بجانبها ... فأمسكت بمطرقة و أخذت تحطم كل الجدران بلا وعي حتى انكسرت إحدى مواسير الغاز الممتدة بداخل الجدران،  انزعجت الأرواح الساكنة ، و قررت أن تأخذها معها و يتحررون جميعًا فانفجر المنزل في مشهد مريب و انطلقت الأرواح هاربة لتجد الحرية أخيرًا .

أخبره أحد الجيران عن حدوث انفجار في منزله فذهب سريعًا و لم يلحق بها، صارت رماد ... لكن رغم ذلك بقيت روحها معلقة في انتظاره .....

 حتى تنتقم .

 

تمت 

رشا أبوالفتوح علي