أسوء عصر في مر الزمان/الهرم المصرى نيوز

 

بقلم /هيام الرمالي 

بالركن الشرقي من المقهي كان يجلس هناك  يوميا يستقل إحدي الطاولات ولا يشاركه بها أحدا ويحتسي فنجان القهوة ببطئ شديد وهو يرمقني بنظراته الحاده ثم ينصرف ،ومن ثم يأتي باليوم التالي بنفس التوقيت حتي أنني أصبحت أضبط ساعتي علي مجيئه بالثامنه صباحا والانصراف بالثامنة والنصف يوميا وهو ينظر لي بتمعن شديد وعيناه تخبرني أن أمرا ما سيحدث بيننا ،عيناه حزينتان تشبهان سماء الخريف ونظراته تحكي أمرا لا أستطيع فهمه ،أثار فضولي بشكل جنوني ؛ من هذا الكهل الحزين ؟ ولماذا يرمقني بنظراته هكذا ؟ 

ذات يوم سألت عنه النادل ،من هذا العجوز يا محمود ؟

محمود : يُدعي حليم سيدي .

انا : وماذا ...أكمل يا محمود ، ماذا تعرف عنه .

محمود : يأتينا كل صباح بالثامنه صباحا ،ويحلس علي تلك الطاولة ،يحتسي فنجان القهوة خاصته بدون سكر  ويطلب الحساب بالثامنة والنصف بالتمام وينصرف ،ولا يتفوه بكلمة واحدة .

أنا : ولكنه دائما شارد الذهن ،يبدو علي هيئته وكأنه كاتبا أو رساما ،ألم تراه يكتب من قبل او يرسم ذات يوما يا محمود .

محمود :لا يا سيدي ،ربما يشارك أفكاره وإلهامه مع قهوته ويخبرها بسره.

انا :إذهب لعملك ،وضع بعض الاوراق علي تلك الطاولة كل يوم لعله يفعل ذات مرة ويخرج ما في جعبته.

وبالفعل أتي العجوز باليوم التالي بميقاته ولنفس الطاولة وجلس جلسته المعتاده وهو يرمقني بنظرات حاده ،وذهب إليه النادل، وطلب منه  قهوته كعادته ولكني خيبت ظنه تلك المرة وغيرت الخطة أو أفسدتها عليه وطلبت من (محمود ) أن يضع بها قطعة سكر ،وذهبت إليه أنا بصحبة النادل ،ورحبت به  وسألته هل تقابلنا من قبل ؟

فأخبرني أن لا ...

طلبت من النادل وضع القهوة علي الطاولة ،وسألت العجوز 

ما رأيك في مقهانا ؟

أراك تتردد علينا يوميا ،ربما أعجبك المكان .

أجابني بإبتسامة باهته أن نعم ،مالهذا العجوز وماذا يخفي ولماذا يراقبني بنظراته ؟

 فقلت له مارأيك بالقهوة أعددتها لك اليوم بنفسي. 

حليم :أخذ رشفة من الفنجان وقال :أنا أحتسيها دون سكر ليتك لم تتكبد ذلك  العناء اليوم لقد أفسدتها.

أنا :معذرة ،محمود إجلب قهوة أخري للسيد الصامت ، كنت أريد أن أستفز صمته  وأُبعثر هدوءه وأُخرج ما بداخله ولكنه لم يُستفز ،فكتبت له علي الأوراق المتناثرة علي الطاولة (المُبالغ في إظهار الشئ مُدعيه ) وذهبت .

حليم : صاح بصوت جهور ...أنت مغرور .

فإستدرت وإبتسمت له وذهبت .

عُدت له أنا بفنجان القهوة وليس من عادتي أن أفعلها أو أتواجد  بساحة المقهي حتي ولو عُج بالزبائن ، قدمت له القهوة واعتذرت منه عن سابقتها .

حليم: لا عليك يا ولدي كرم منك أن تاتيني بها بنفسك ،أعتذر انا ايضا عما بدر مني وإرتفاع صوتي عليك ،نحمد الله أن صاحب المقهي غير موجودا .

أنا :لا عليك يا جدي أنا حقا مغرورا وأعي ذلك ،وأنا صاحب المقهي .

حليم:تمعض من كلماتي وإستنكرها بشدة وصمت برهة ثم قال: حقا أنتم جيلا غريبا ،ربما مغرورا حقا .

أنا:لا يا جدي ،أنتم تتدعون الصلاح  والكفاح وتمنون علينا  بالأيام وما تركتموه لنا من فتات مال وتتهموننا بالضعف والسفه  ولا نحن ولا أنتم هكذا ؛ولكننا فعلناها وأتينا بما أضعتموه أنتم وآبائكم منذ أكثر من مائة عام ياجدي .

أنا غير مدعي نحن أفضل منكم ،نحن جيل التحرير ألا تشهد لنا بالقوة والصلاح بعد هذا .

لقد وضعت  تلك الاوراق علي الطاولة عن عمد ربما ترسم أو تكتب شيئا ظننتك رساما أو روائيا .

حليم :إغرورقت عيناه وقال ولما ظننت هذا بي !

أنا :قرأت في عيني حليم قهر الرجال ولا أريد ان أزيد عليه ألمه ولكني أريد ما تخبرني به عيناه ،نفسي تُحدثني أن بداخله أمرا يخشاه ويريد أن يبوح به ويثقل قلبه ،وربما له علاقة بي وإلا فلما تلك النظرات الغريبة .

لأنك تشبهني ،عيناك تشبه أيلول وأشعر أنك من مواليد أيلول مثلي هههه ،من خذلك إلي هذا الحد يا جدي ؟ 

هل خانك صديق أم حبيب لتصل لهذا الألم ؟

إبتسم حليم وعيناه مثقلة بالبكاء  وقال :  لا بل أنا الخائن والآثم ،أنا الخائن ،ذات يوم خنتها وتركتها هذا أنا  ،ومن أنت ؟

أنا :أنا أركان صاحب هذا المقهي ،وشاهدا علي العصر بكتاباتي وأقلامي 

حليم : من أنت أيها ال أركان .

أنا: سأصدقك القول علي أن تعاهدني أن تصدقني القول .

حليم :أعدك ،ولكن ماذا تريد أن تعرف عني   ؟

أنا :لا أريد أن أعرف عنك إلا ما تريد إخباري به ،ولكني أريد أن تقصص لي عن تلك الجميلة كيف خنتها وبعتها وتركتها،

ونهضت وتركت الطاولة .

حليم : هب واقفا وقال بصوت مرتفع رغم أنه مختنقا بالألم 

ذات يوم زارنا 

فٱستدرت له عن بُعد من ؟ .....من زاركم ؟

حليم :زار الحرام ديارنا فتهدمت 

       زار الحرام عقولنا فتصهينت

      زار الحرام رجالنا فتديثت 

     زار الحرام صغارنا فتديثت 

ليتنا وليتنا وليتنا ....لكنه حقا زارنا .

لن اقول كالجميع نحن ضحايا مجتمعية وهكذا ،لقد كنت بطلا رياضيا وكنت ثريا ومن أسرة لها اسم عريق أيها المغرور.

أنا : يقول علم النفس أن الشخص الرياضي هو أكثر الأشخاص قدرة علي تحمل المسئولية وسرعة التشافي من الصدمات النفسية فقوة الجسم والعقل تنعكس علي الشخصية ،وهكذا كانت تقول أمي .

حليم :بعض الامور والمشكلات لايصلح علم النفس لحلها ،فهي تتجاوزه بمراحل .

أنا: ألم يكن  لديك توجها إيجابيا لحل المشكلات ومواجهة الأزمات ام انك مهزوما نفسيا ؟

حليم :من أنت ايها الأركان ؟

       

أنا أركان ولدت في أيلول عام ٢٠٢٣ ،كانت اياما صعابا لا تنسي علي كل الأمة الإسلامية والعربية ،حينما ذهب الفرسان لتحرير الأقصي فضاعت غزة منهم غدرا ،عندما إتفق علينا العالم أجمع برا وبحرا وجوا وأقسموا أن يهلكوا الحرث والنسل ووقف العالم صامتا ،البعض يبكينا والبعض ناسينا .

أسست ذلك المقهي بأجمل جزء بالساحل الشرقي للبحر المتوسط وزرعت حوله حدائق البرتقال وخصصت ذلك الجزء منه وأسميتها (يافا)  وبالقرب هنا منزلنا .

ومن أنت أيها العجوز ؟

بكي حليم وإبتلت لحيته ،فربت علي كتفه وقلت له ماذا يبكيك ،وقلت في نفسي إن كنت أنت هو فلك عليّ دين إلي يوم يبعثون .أخبرني فروحك تشبه روحي أيها العجوز .

حليم : أغمضتها كي لا تفيض فأمطرت.

هل أنت من السكان الأصليين لتلك المدينه ؟

حليم :لا.

عيناه تخبرني أنه كاذبا ،وأنه هو ....

يُتبع ....(أسميتها يافا)

بقلم /هيام الرمالي