وفد من أهالى أسوان يدعمون الأطفال مرضى السرطان في شفاء الأورمان/الهرم المصرى نيوز

 

بقلم الكاتب: أحمد فايز 

"في إحدى ليالي المستشفى، وأنا أراقب الحياة من حولي، أدركت شيئًا جديدًا. الحياة لا تمنحك دائمًا الفرصة التي تنتظرها." 

_كان الليل هادئًا في غرفة الانتظار. الهواء مشبع برائحة المطهرات والأدوية، والهدوء المريب الذي يخيم على المكان كان يغطي على ما يختبئ من قصص وحكايات بين جدران المستشفى. فجأة، قطع ذلك السكون دخول أب، وجهه عابس، عيناه جامدتان، يجر خلفه ابنه الذي كان شاحب اخلوجه، جسده مثقل بالألم.

كان من الواضح أن بينهما خناقة شرسة. تعبيرات وجه الأب كانت مليئة باللامبالاة، وكأن حضوره هنا لم يكن سوى واجب مفروض عليه. وقف خارج غرفة الفحص، متحجراً، كأنما ينتظر بفارغ الصبر أن ينتهي الأمر ويعود إلى منزله لينام.

لم أستطع التوقف عن مراقبة المشهد. كان هناك شيء يلفت انتباهي نحو الأب. كان يبدو عليه أنه لا يشعر بأي شيء حيال ما يحدث. بعد قليل، تلقى مكالمة هاتفية، ولم يستطع منع نفسه من الزعيق:

"هو كل يومين يعمل نفس الحكاية ونيجي المستشفى! يا ريت الموضوع ده يخلص على خير". 

توقفت عند جملة معينة قالها، وكانت كالخنجر: 

"أنا عايز أطلعه راجل، قسوتي عليه عشان يجمد". 

تمتم الأب بصوت قاسٍ، وأضاف: 

"مش هدخل أمه معاه، هبقى أراضيه بكلمتين لما نخلص ونروح. كل ده علشان خاطرك أنت".

مرت الساعات ببطء، وأنا لا أزال أراقب الأب. كان وجهه كتلة من الجحود، لا يظهر عليه أي ندم أو قلق على ولده الذي يقاتل من أجل الحياة خلف الأبواب المغلقة. شعرت بشيء ثقيل في قلبي، كأنني أرى مشهدًا مأساويًا يُكتب أمام عيني، لكن لم أكن أعلم بعد حجم المأساة التي تنتظر.

وأخيرًا، جاء رجل الأمن، ونادى على اسم. الأب قام من مكانه بتثاقل شديد، وكأنه لا يريد التحرك. عرفت في تلك اللحظة أن الاسم الذي نُودي عليه هو اسم ابنه. توجه الأب ببطء نحو الرجل، فواجهته الكلمات التي لم يكن يتوقعها أحد: 

"البقاء لله".

في تلك اللحظة، رأيت كل شيء يتغير. الأب، الذي كان واقفًا كالصخرة، انهار فجأة على الأرض. الجحود الذي كان يملأ وجهه تحول إلى دموع غزيرة وصراخ من أعماق قلبه، "خلاص والله! قولوله يرجع، مش هزعله تاني، مش هضايقه، مش همد إيدي عليه خلاص... أنا غلطان والله، كنت فاكره بيكدب لما كان بيقول إن قلبه بيوجعه مني!".

وقفت في مكاني، شعرت بأن الأرض قد تحركت تحت قدمي، لكنني لم أتمكن من الاقتراب. كنت الوحيد الذي لم يتحرك، بينما الجميع حولي انطلقوا نحوه، يحاولون مواساته ورفع جسده المتهاوي عن الأرض.

لم أستطع التحرك. لم أستطع حتى الشعور بالتعاطف. في تلك اللحظة، أدركت شيئًا مأساويًا... الحياة لا تمنحك دائمًا فرصة لتصلح ما أفسدته. كانت اللحظة الوحيدة التي تمنيت أن أواجهه فيها وأقول له:

"شوفت؟ الحياة مش هتديلك الفرصة تصلح الي خربته. شوفت إنه مكانش بيمثل زي ما كنت بتقول. شوفت إن قسوتك عليه معملتش منه راجل، دي خدته منك للأبد".

رُبما لم أكن أعرف التفاصيل كاملة، ربما لم أكن أعلم ما إذا كان الابن قد أخطأ حقًا أو كان مستحقًا لتلك القسوة. لكن ما رأيته بوضوح هو أن القسوة لم تأتِ إلا بقسوة مضاعفة، وأن الفرص لا تأتي إلا مرة واحدة، وعندما ترفضها، قد لا تعود.

الحياة ليست لعبة، ولا تتيح لك دائمًا الوقت لتصلح أخطائك في اللحظة التي تختارها. ربما إذا دخل الأب ورضاه بكلمتين حينما كان الوقت مناسبًا، لكان الأمر مختلفًا. لكنه أصر على التأجيل، والآن، الابن رحل ولن يعود.

_لذلك، بلاش قسوة، بلاش عناد، وبلاش تأجيل. الحياة مش هتديك الفرصة تصلح غلطك لما أنت تختار.

" أحيانًا، أعظم انتصاراتك ليست في أن تكون الأقوى أو الأصعب، بل في أن تكون الألطف. الحياة قصيرة، والفرص نادرة، فلا تدع قسوتك تقف بينك وبين من تحب، لأنك قد تستيقظ يومًا وتجد أن الوقت قد فات لتقول "آسف".

تمت

_أحمد فايز