اني اشتاقك/الهرم المصرى نيوز

 

بقلم / مي صالح علي 

في عصر التكنولوجيا الحديثة، أصبحت السوشيال ميديا جزءًا لا يتجزأ من حياتنا نو اليومية، حيث تتيح التواصل وتبادل المعلومات بسرعة كبيرة. لكن هذه الوسائل، رغم ما تحمله من فوائد، أصبحت أيضًا سببًا في تفكيك بعض العلاقات وصلة الرحم، خاصة في ظل انتشار ظواهر مثل "النرجسية" و"جروح الطفولة"، وتوجيه التركيز نحو مواضيع مثل "دور الضحية" و"الغضب الدفين". هذه المفاهيم، حين يتم تناولها دون وعي، تؤدي إلى تعميق الجراح العاطفية بدلاً من حلها، بل وتشجع على وضع الأفراد في إطار سلبي يُبعدهم عن إصلاح العلاقات ويحرضهم على مواجهة الآخرين بدلاً من احتوائهم.

هذه الظواهر تكرّس نوعاً من الاستقطاب بين الأفراد، حيث يتم وضع علامات مميزة على كل شخصية تُظهر بعض السمات السلبية، مما يزيد من المسافات ويجعل الناس أقل تقبلاً لبعضهم البعض. كما أن التركيز الزائد على "النرجسية" و"التعرض للعلاقات السامة" أصبح يستخدم لتشجيع الجمهور على فصل أنفسهم عن أفراد عائلاتهم أو المقربين منهم تحت دعاوى "الحفاظ على السلامة النفسية". هذا التوجه يضعف قيم صلة الرحم، والتي تُعتبر قيمة أساسية في المجتمعات.

مشاركات السوشيال ميديا: دعوة للعزلة

في عصر تتسابق فيه المعلومات وتتدفق بشكل يومي، أصبحت مشاركات السوشيال ميديا تلعب دورًا محوريًا في تشكيل عقولنا وسلوكياتنا. ومع تزايد التركيز على القضايا النفسية والشخصية، نجد أن الكثير من هذه المحتويات تحث على العزلة بدلاً من التواصل. تتسم العديد من المنشورات بالرسائل التي تدعو إلى الانسحاب من العلاقات الاجتماعية والتباعد عن الأهل والأصدقاء تحت مسميات "الحفاظ على النفس" أو "تجنب العلاقات السامة". هذه الرسائل، رغم أنها قد تحمل بعض الحقائق، إلا أنها تخلق شعورًا بالخوف والقلق تجاه العلاقات العائلية والاجتماعية.

من خلال تعزيز مفهوم العزلة، تُرسخ هذه المشاركات فكرًا سلبيًا يدفع الأفراد إلى الانفصال عن أحبائهم، مما يزيد من شعورهم بالوحدة. ولذا، من الضروري أن نكون واعين للمحتوى الذي نتفاعل معه، وأن نعيد النظر في تأثيره على حياتنا وعلاقاتنا. فلنبحث عن السبل التي تعزز التواصل والتواصل الحقيقي، ولنسعى لبناء مجتمع يضمنا جميعًا، بدلاً من أن يقودنا إلى العزلة.

استغلال مدعي التخصص في الصحة النفسية

للأسف، استغل بعض مدعي التخصص في الصحة النفسية هذه الظواهر من أجل التربح. يتم التركيز على مواضيع مثل "الزوج النرجسي" و"الأب النرجسي" لجذب الجمهور، مع تشجيع المحتوى على تعزيز القطيعة، وتصوير الشخصيات المضطربة بشكل مستمر على أنها تُسبب الأذى للآخرين. من خلال تقديم نصائح موجهة نحو إبعاد الأفراد عن محيطهم الأسري، يجد المتابعون أنفسهم مُستغرقين في متابعة المحتوى بشكل يومي مما يزيد من تعلقهم واهتمامهم بهذا النوع من المنشورات. وللأسف، يُفضي هذا إلى تحويل مشاكلهم النفسية إلى مصدر للربح بدلاً من معالجتها، حيث يتكرر تعلّق الأفراد بتلك المعلومات دون التحقق من مصداقيتها أو تقييم الضرر الذي قد يلحق بالعلاقات الأسرية كنتيجة لهذه الأفكار الموجهة.

رأي الأديان في التعامل مع الشخصيات المضطربة

قدمت الأديان نظرة شاملة حول كيفية التعامل مع الشخصيات الصعبة أو التي قد تسبب أذى نفسي، مُشددة على الصبر، الرحمة، والتماس الأعذار. في الإسلام، تتكرر دعوات التسامح وصلة الرحم في القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ" (آل عمران: 134)، مؤكدًا على قيمة العفو والصفح في العلاقات الإنسانية. وأمر الله بصلة الرحم، حتى في أصعب الظروف، حيث قال تعالى: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ" (النساء: 1)، مؤكدًا على أهمية الحفاظ على الروابط العائلية.

في المسيحية، تتجلى دعوة المسيح عليه السلام للمحبة والتسامح حتى مع الأعداء، حيث قال: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ" (متى 5: 44). فكانت رسالته تدعو المؤمنين إلى الرد على الإساءة بالخير، ونبذ الكراهية.

أخلاق الأنبياء في التعامل مع الشخصيات المضطربة

تمثلت أخلاق الأنبياء في التعامل مع الشخصيات المضطربة بالصبر، الحكمة، والرحمة، مع تجنب رد الإساءة بالإساءة. كانوا يتصفون بالحكمة والبصيرة في مواقفهم، وقد أظهروا تسامحًا عظيمًا في التعامل مع المضطربين أو المسيئين، خاصة من أهلهم والمقربين منهم.

النبي إبراهيم عليه السلام: واجه والده الذي كان يعبد الأصنام، ورغم أنه رفض دعوته بقسوة وتحدٍ، استمر إبراهيم في مخاطبته بأدب شديد قائلاً: "يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا" (مريم: 42). وبعد أن توعده والده بالإبعاد، قال له: "سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا" (مريم: 47)، مما يبرز قدرة إبراهيم على التحمل وعدم الرد بالإساءة، بالرغم من أنه تعرض للتهديد.

النبي يوسف عليه السلام: رغم ما تعرض له من أذى على يد إخوته الذين ألقوه في البئر وتآمروا عليه، عندما أصبح عزيزًا في مصر والتقى بهم، اختار التسامح وقال: "لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ" (يوسف: 92). كان يوسف مثالاً للرحمة عندما قابل إساءة إخوته بالمغفرة، ليضرب درسًا في التعاطف والتسامح.

النبي محمد صلى الله عليه وسلم: كان رحيمًا ولطيفًا حتى مع من أساء إليه، فقد عُرف بالصبر والتسامح مع قريش، كما في موقفه مع أهل الطائف، حيث كانوا يؤذونه ويرفضون دعوته، ومع ذلك دعا لهم بالهداية قائلاً: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون". وفي فتح مكة، عندما عاد منتصرًا، قال لأهل مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، مسامحًا جميع من آذوه.

النبي عيسى عليه السلام: كانت رسالته تركز على محبة الآخرين والتسامح حتى مع الأعداء، كما في قوله: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ"، داعيًا إلى أن نرد على الشر بالخير، وأن نتعامل مع الآخرين برحمة وتسامح. هذه التعاليم تظهر بوضوح كيف كان الأنبياء يواجهون الشخصيات الصعبة أو العدائية بالصبر، العفو، والنظر بعين الرحمة، مُعطين درسًا عظيمًا في التعامل الحكيم مع التحديات العاطفية.

كيف تقوي صلابتك النفسية في مواجهة البيئة المضطربة ؟!

لتقوية الصلابة النفسية عند التعامل مع بيئة مضطربة، خاصةً إذا كان الأمر يتعلق بالأهل، ينصح المختصون بتطبيق عدة مبادئ تساعد على الحفاظ على التوازن النفسي. أولاً، يجب وضع حدود واضحة وصحية، تتيح للفرد التعامل بأمان دون التورط في صراعات تؤثر عليه. يمكن أيضًا الاستفادة من تقنيات إدارة التوتر، مثل تمارين التنفس، التأمل، وتدوين المشاعر. يفضل ممارسة الحوار الهادئ والتعبير عن الذات بطريقة غير تصادمية، مع فهم أن الحدود النفسية قد تكون ضرورية عندما تصبح العلاقات سامة. في بعض الحالات، إذا استمر الأذى النفسي، قد يكون من الضروري تقليل التواصل بما يضمن الحفاظ على السلامة النفسية .