اني اشتاقك/الهرم المصرى نيوز

 

بقلم / هاني منسي

    اكسر الشر، عبارة تتردد على ألسنتنا كثيراً، ونسمعها كثيرا في الشارع المصري. خصوصًا وقت الغضب عندما يكون العقل شبه مغيب، فالغضب يعمي، وقد تنتج عن الإنسان أفعالا قد يندم عليها العمر كله، فنجد الناس في وقت الخناقات تتجمع بشكل عفوي لكي تُخلّص بين الخصمين دون سابق معرفة بهما ولا بالموضوع سبب المشكلة. نجد في المقابل في السينما الغربية، عندما يكون هناك احتمالية اشتباك بالأيدي، يتجمع الحاضرون في دائرة للتسخين والتحفيز والفرجة والاستمتاع، وربما جاءت هذه من عاداتهم القديمة حيث اعتاد أجدادهم قديما على الاستمتاع بالفرجة على المسابقات الخطيرة ومنظر الدماء واحتمالية الموت في المنافسات في جو رياضي احتفالي وتصفيق الجماهير. وربما لهذا السبب لم تنل الرياضات العنيفة مثل المصارعة الحرة مثلا رواجا في مصر عكس الدول الأجنبية.

   ذلك يحمل في طياته عمقاً تاريخياً وثقافياً. فالشعب المصري، منذ أقدم العصور، كان يتسم بالتسامح والتعايش السلمي. نجد جذور هذه القيم الأصيلة متجذرة في أعماق تراثنا الشعبي وحضارتنا المصرية العريقة. من العادات والتقاليد التي تربينا عليها في القرية المصرية أن نضع كسرة خبز في السيالة لتجنب شر  كلاب السكك الشرسة، فبمرو الوقت تتحول الشراسة إلى صداقة.

   المواطن المصري البسيط المسالم منذ فجر التاريخ، ولا يشغله غير لقمة العيش، لم يذكر التاريخ أنه قام بغزو على أحد أو سرقة أو سلب أي حق ليس من حقه، فيظهر هنا الموروث المتغلغل في الوجدان منذ الصغر وهي فكرة "كسر الشر"، التي تحمل دلالات التحمل والسيطرة على الغضب، ولكي ينفس عن الغضب ويريد أن يكسر شيئا فليكسر الشر ذاته، ولهذا ظهرت مقولة "ابعد عن الشر وغني له"، وهذا أكبر دليل على انحياز المصري إلى الحياة والفرح والسلام.

  في الأدب المصري القديم، نجد قصة الفلاح المصري الفصيح، الذي كسر الشر، حيث كان في طريقه إلى السوق ليبيع بضاعته وما انتجت يديه، اعترضه صاحب الحقل، فرد مفرش بعرض الطريق ليوقع الفلاح في خطأ ليتخذه سببا ليأخذ منه الحمير والبضاعة، لكن الفلاح كسر الشر ومر من ميل الحقل، فقضم الحمار من الحقل، فضرب صاحب الحقل الفلاح، وأخذ منه الحمير والبضاعة، لم يبادله الضرب، ولم يقابل الشر بالشر، بل بدأ يكتب خطابات شكواه الشهيرة التي ادهشت إلى القاضي..أعجب القاضي من أسلوب الفلاح ويعرض الخطاب على درجة أعلى منه، ويطلب من الفلاح أن يكتب خطاب آخر للدرجة الأعلى، وكل مرة يزيد جمال وروعة الأسلوب في الخطابات،  وهكذا إلى أن وصل إلى الملك، الذي عينه في منصب مرموق في الدولة، وظلت هذه الخطابات موجودة في متاحف خارج مصر.

   لم يشهد التاريخ المصري أن الجيش المصري القديم والمتقدم قام بغزو لدول. لم يبدأ حربا قط. كان الجيش للحماية ورد الطغيان، والدفاع عن الأرض، مما يثبت قدرة المصريين على التسامح والتعافي من الأزمات، بعد فترات من الاضطرابات والحروب، نجدهم يعيدون بناء مجتمعهم على أسس من التسامح والتعاون.

   لعل أعظم دليل على التسامح الذي ساد في مصر، بعد رحيل أخناتون، وفشل دعوته في إحداث مفارقة عن الدين التقليدي لآمون، أننا لم نر انتقاما من كهنة آمون تجاه كهنة آتون، بل تم العطف عليهم، ومن ثم احتواءهم من جديد، وتقديم فرص إعادة التأهيل الفكري لهم، كل هذا من أجل الحفاظ على روح التسامح الإنساني داخل القطر المصري، ولهذا تجاوز المصريون تحدي صراع الأديان على مر العصور.

   التسامح (كسر الشر) ليس مجرد قيمة موروثة، بل هو جزء لا يتجزأ من هويتنا المصرية. علينا أن نستلهم من تراثنا العظيم هذه القيم النبيلة، وأن نعمل على نشرها وتعزيزها في مجتمعنا المعاصر. فبالتسامح والتعاون وتقبل الآخر، يمكننا بناء مستقبل أفضل لأجيالنا القادمة.

هاني منسي