محافظ الأقصر يقدم اعتذاره عن انقطاع المياه اليوم/الهرم المصرى نيوز

 

محمود إسماعيل حلمي

كان التنوع الإنساني ثقافةً ولغةً وتاريخًا وهويةً عنصرًا فاعلًا بين أحضان الإنسانية، ولذا فمن الأهمية بمكان أن يدرجه المرء في حسبانه إذا ما رغب في التدقيق في عالم الإنسان والوعي به عظيم الفهم. وإذا كانت الهوية تحتوي على اللغة والتاريخ والدين والعرف ونحو ذلك، فالسؤال الذي يصح طرحه: هل كل ما تقدم قابل للتغيير أو -إن شئت- قل: هل من الممكن أن تتغير ثقافة ما معينة بين حين وأخيه سيما في أوقات الأزمات الحضارية؟ هذا بالتأكيد سؤال صعب، غير أن هذا المقال القصيرعنى بهذه القضية، تلك القضية التي عُني بها أكثر المفكرين العرب مذ أيام عصر النهضة العربية خلال القرن الثامن عشر إلى اللحظة التي أكتب عندها هذه الكلمات. ولعلنا نقف في هذا المقال عند نقطتين اثنتين لا ثالث لهما: الأولى ذات صلة بما يجري الآن في السعودية من محاولة تغيير ثقافة البلد المتسم بالمحافظة الثقافية، وذلك باسم الترفيه، أما الثانية فتتمثل في مناقشة قضية فلسطين وما يشهده هذا البلد من سوء حال منذ عقود عدة مناقشة فنية بعض الشيء. وقد يسأل القارئ متعجبًا: ما الرابط بين قضيتين متباينتين كهاتين؛ إذ بينما السعودية بلد مستقر، تعاني فلسطين سلبًا للأرض وانتهاكًا للحرية؟! أقول مجيبًا عن هذا التساؤل المشروع: سيدي القارئ، كلا البلدين يشكو ضيقًا متعلقًا بمسألة الهوية من جانب واحد، إلا أنه مختلف في الاتجاه؛ فبينما ترغب السعودية في أن تهرول إلى ثقافة الغرب بطريقة أو بأخرى، تتألم فلسطين من بكم غربي عن قضيتها. أحد البلدين يرنو إلى نكران ذاته، أما الآخر فيخشى نكران الآخر لذاته. العلاقة المباشرة بين القضيتين تتجلى إذن في التأثر بالآخر، وإن كان التأثر لا يباشره العقل للوهل الأولى.

يُخيلُ إليَّ أنه من الصعوبة بمكان أن أنشأ أكتب عن الهوية وإمكانية تغييرها أو التمسك بها دون أن أحدد معنى "الهوية" أولًا ومن ثم معرفة ما للمفردة من لوازم. لذلك دعني أقول، سيدي القارئ، إنني أظن الهوية تتألف من نسق ثقافي معرفي، يحاول عن طريقه الفرد والمجتمع كلاهما إيجاد أنفسهم إيجادًا إنسانيًا محضًا ومعنى وجودي لحيواتهم بوصف كل نسق ثقافي حلًا للأزمات الوجودية الكبرى، مرورًا بتنميط العقل الجمعي بنمط ما سائد، وانتهاءً بأساليب الحياة المتباينة على امتداد وتنوع الثقافات الإنسانية. الهوية إذن تشمل التاريخ المشترك لشعوب تتقارب في العادات والتقاليد والأعراف والأديان، كما جاء آنفًا، فضلًا عن اللغة وآدابها. على الرغم من تعرض المنطقة العربية إلى عدة احتلالات أجنبية، فإنني أعد انهيار الدولة العثمانية أحد أهم العوامل الذي آل إلى فقدان الهوية العربية؛ ذلك لأنها ترمز إلى انهيار الرمز السياسي للدين المتجذر في المنطقة، أعني انتهاء الخلافة الإسلامية. وللناظر أن ينظر، وللمتفحص أن يتفحص، كتابات ذلك الوقت خصوصًا؛ ليعلم أَنَّ التعصب ديدن طائفتي الخلافة والعلمانية كليهما. وما يجري في السعودية هو امتداد لذلك الصراع القديم بين إقحام الدين الإسلامي في السياسة الداخلية للبلاد العربية بعد سقوط الخلافة العثمانية وبين إقصاء تشريعاته عن الساحة السياسية. على الرغم من أَنَّ الحاصل في السعودية حاصل باسم الترفيه، فضلًا عن وجود تصور مبطن مشوه لمعنى التقدم الحضاري، فإنه يحوي في طياته محاولة جادة إلى التخلص من الثقافة القديمة واستقطاب ثقافة محض غربية، دون أن يكون في ذلك نظرٌ إلى عواقب المحاولة عينها. والمحاولة لتغيير الثقافة باستجلاب ثقافة ما وإقصاء أخرى -في تقديري- محاولة سلطوية يغمرها الديكتاتورية السياسية، وليست شعبية تنهض بدور في تكوين إرادة جادة للمواطنين؛ فلو كان للشعب فيما يحصل ناقة أو جمل، أو رأي أو قول، لكان نقدي لما يحصل أدنى غلظة. والفكرة التي تقوم على ضرورة القطيعة المعرفية والثقافية حتى يكون التقدم الحضاري تبدو -بالنسبة إليَّ- فكرة تكرر نفسها في التطبيقات المعاصرة للمملكة السعودية؛ إلا أنها لا تزهر للإنسان حاجة ولا تحصد نهضة. ولا أقول ذلك انتصارًا للثقافة المحافظة، فأنا أزهد الناس في المحافظة الثقافية، بيد أنني لا أرى تقدمًا ممكنًا في أي بقعة من بقاع هذا العالم إلا إذا كان للناس في ذلك رؤية تعليمية جادة. البداية في تشكيل نهضة لا تنطلق من القطيعة الثقافية مع الماضي، ولا تسلك مسلكًا حقيقيًا عن طريق تقليد ثقافات الأمم المتفوقة؛ وإنما يجب أن يكون باعثها الأول عقولًا قادرة على النقد والنقض معًا، عقولًا تقوى على الفرز والاختيار والإبداع والابتكار ومن ثم النهوض بأمة تخلفت عن أمم هذا العالم. إذا كان لي إذن من رسالة متخيلة أوجهها إلى البلد الشقيق، فلا أحسبها تخرج عن الآتي: يا قوم، إِنَّ ثقافة القطيع لا تغني ولا تسمن من جوع في حالتي الانفتاح والانغلاق كليهما؛ فلتحاولوا سلطةً وشعبًا أن تنيروا النهى بشيء من القدرة الفردانية على الاصطفاء، ولن يحصل ذلك إلا إذا نهضت السلطات المتباينة والشعب الذي لا حول له ولا قوة بإصلاح التعليم.

أما عن فلسطين وأحوالها، فدعني أتحدث، سيدي القارئ، عن حدث فني حضرته من قبل في الجامعة الأمريكية بالقاهرة حيث أدرس، وهو منعقد من خلال أحد النوادي الطلابية بالجامعة يُدعى “Help”.والحقُ أَنَّني سعدتُ أيما سعادة بحضوري ذلك الحفل الباعث على الضحك والتحسر؛ إذ إِنَّه عرض فقرة شعرية وثلاثًا من الإسكيتشات، آخرها عن فلسطين والشعر عنها كذلك. أما الآخران فاجتماعيان يتناولان موضوعين اجتماعيين يمسان الجامعة والعالم العربي، إذ أحدهما يتعرض إلى موضوع الغش بين الطلاب ومدى تأثيره على مستقبلهم الفارغ من المضمون؛ حيث إِنَّ الغاش يقوى بغشه على صعود درج الترقي الطبقي المالي والوظيفي في المجتمع، بيد أنه يكون فارغًا من الداخل ولا يستطيع أن يواكب احتياجات الترقي ذلك. وتلك حال طالب إدارة الأعمال أو المحاسبة بالجامعة الأمريكية المدعو حسين في الإسكتش، وهو الحارز مجموعًا حاصله الدرجات النهائية في جميع ما درس من مواد بالتماس الغش، وهو أيضًا الذي تدرب في شركة كبيرة في الشرق الأوسط، بعد أن أحرز زيفًا ثقة أستاذه فيه فتعاطف معه، متبعًا نفس سياسته في الغش في تدربه في الشركة كذلك؛ مما أودى به إلى عظيم خيبات تبعًا لذلك حيث الغرامات المالية للشركة التي تدرب فيها. أما عن الإسكتش الثاني، فهو يناقش موضوع اختلاف اللغات وتنوعها ظاهرًا، لكنني أراه -في الأصل- يناقش حالة التردي الثقافي والحضاري للعرب. وترجيح ذلك النقاش مآله إلى ظهور الخوارزمي الناطق بلغة العرب، والذي يساعد عربيًّا وأعجميًّا في حل مسائل رياضية بطريقة خاطئة! إضافة إلى ذلك، هو، أي الخوارزمي في الإسكتش، يتحدث باللغة الفصيحة؛ الأمر الذي يكشف عن مدى الهوة بين العربي المحاور وبينه، ما يحمل بين طياته إشارة إلى الفجوة الحضارية بين العرب وغيرهم ممن سبقوهم. والسؤال الذي مفاده: "لماذا تخلف العرب وتقدم غيرهم؟" لهو سؤال كبير لا مجال لبسطه وتفنيده في ثنايا هذه الكلمات المقتضبة؛ إذ ضرب بالجواب عنه مفكرو العرب ومصلحوهم مذ أيام النهضة العربية كما أشرنا سابقًا، ولم ينتهِ السؤال بعدُ من وضع جوابه ولم يفرغ بعدُ المفكرون من البحث فيه. ويبدو أَنَّ السؤال هذا محتل ضمير العرب إلى أن بلغ ضمير عوام الناس وتناولوه من خلال إسكتش في ذلك الحفل.

أما عن الفقرة الشعرية، فهي عن فلسطين الجريح والمغتصب تحت عنوان "في القدس"، ولا أرغب في التوقف عندها كثيرًا؛ إذ إنها قصيدة حماسية تنهض بدور في إثارة ضمائر الناس. أما عن الإسكتش الذي يتناول قضية فلسطين، فهو حاول أن يقدم طريقة مبتكرة في عرض المشكلة الحادثة حيث التناقد بين قيم مجلس الأمن والأمم المتحدة وسائر ممثلي الغرب من دول ومنظمات وبين موقفهم المخزي من إقامة دولة لليهود في فلسطين. والطريقة المبتكرة تتكئ على مباراة بين اثنين أحدهما يُدعى نضال، وهو يشير إلى فلسطين والنضال العربي، والآخر بِن، أي الصهاينة، ويحكم بينهما يونس، وهو – على ما يبدو – يشير رمزيًّا إلى الأمم المتحدة. كما أَنَّ الطريقة حاولت أن تؤرخ للمباراة الرمزية بدءًا من وعد بلفور، مرورًا بالاستبياع المزعوم لأهل فلسطين وطنهم، وانتهاءً بالوضع الراهن الذي هو لا يعدو كونه حربًا بين يهود وارثي أراضي أجدادهم من ناحية وبين عرب يحاولون استنقاذ وطنهم المغتصب من الأجداد عينهم من ناحية أخرى. 

على الرغم من تعاطفي مع قضية فلسطين باعتبارها قضية محض إنسانية في المقام الأول، إذ أتعاطف معها كما أتعاطف مع أي مُستضعَف يغور عليه متكبر مستقوٍ، فإِنَّني أرى نفسي جاهلًا في فهم هذه القضية كما عُرِضَت في الحفل؛ حيث لا أظن البداية الجادة منطلقها مؤتمر الصهيونية أو وعد بلفور أو حرب 1948، وإنما ثمة جذور للمشكلة كأن يكون في التوراة إشارات إلى دولة خاصة بشعب الله المختار، بالإضافة إلى تفاعل بعض مفكري الغرب، خصوصًا اليهود، حيال تلك الدولة الخاصة بهم. الأمر إذن من ناحيتي يتطلب دراسة عميقة، ولا أظن الانخراط في التصور الشعبوي يفيدني كثيرًا؛ إذ لا أريد أن أتأثر بالعاطفة الدينية أو ما يبعث على النحو عينه. كل ما أستطيع الإعراب عنه أَنَّ ما يحدث في تلك المنطقة وغيرها من مناطق الاستضعاف في هذا العالم التعيس تستحق الرحمة وتثير حقًا الشفقة. أما إذا طُلِبَ مني حلٌ لمعضلة فلسطين، فليس ثمة عندي من حل جذري قبل دراسة وضع المنطقة دراسة معمقة، أنتهي بعدئذ إلى فهم صحيح لما يحدث، لا الانخراط الشعبوي الذي ليس هو الحل بالنسبة إليَّ. ومع ذلك، فالبكم الغربي، لا سيما من قبل المؤسسات الحقوقية البحتة،  حيال هذه القضية يثير حقًا اشمئزازي، ويدل على ازدواجية المعايير والقيم السياسية، كما أنه يشير إلى ما أصرخ دائمًا للتعبير عنه، وهو أن ليس ثمة مكان في هذا العالم لضعيف. 

وجملة القول أنني أرى العالم العربي يعاني أزمة هوية متفاقمة، يمثلها على سبيل التمثيل المملكة العربية السعودية إلى جانب فلسطين، فكلٌ يمر بتجربة خاصة به، غير أن حاصل التجربتين بحث عن الهوية الذاتية. بينما تحاول المملكة العربية السعودية نقد الثقافة القديمة عن طريق الانسلاخ منها وإبرام عقد قطيعة معها، لا تجد فلسطين في سبيل النهوض بهويتها سوى التمسك بها أو ربما البحث عنها. إضافة إلى ما تقدم، قد أعربنا عن أنه لا مانع من تغيير ثقافة ما لبلد معين، إلا أَنَّ ذلك التغيير لا بد أن يكون منطلقه التفكير العقلاني الحر وليس ثقافة القطيع التي تجر العقول دون إنارة فردية. ولقد استمتعت -ولا شك- بجميع العروض التي حضرتها في حدث الجامعة، غير أنني رأيتُ في العروض جميعها انفصالًا؛ إذ لم أعرف العلاقة التي تربط إسكتش حسين الغاش وإسكتش اللغات المختلفة من ناحية بقصيدة "في القدس" وإسكتش فلسطين من ناحية أخرى. لم أستطع أن أفهم العروض الأربعة إلا على نحو عرضين اثنين، أحدهما يخاطب المجتمع والناس وقضاياهم والآخر ينحو نحو فلسطين وما بها من مشكلات. بيد أنني لا أقوى على فهم العروض الأربعة مضفيًّا عليها صفة الوحدة الفنية إلا إذا جعلتُ النصف الأول يختص بالحضارة والهوة في نواحيها، وذلك ما أميل إليه كما عرضت، والشطر الثاني ينحو نحو تبعات هذه الفجوة.